رسالة مفتوحة إلى ياسر عرفات في ذكرى رحيله!! / بقلم / محمود كعوش / كاتب وباحث مقيم في الدانمارك
أربعة أعوام مرت على رحيل الرئيس الفلسطيني الأول ياسر عرفات،لربما أنها كانت الأخطر والأسوأ في تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث بعد نكبته الكبرى في عام 1948.فقد تعرضت الساحة الفلسطينية خلالها لكثير من الأعاصير والزلازل والهزات والكوارث غير الطبيعية وغير المألوفة كان أبلغها وأخطرها على الإطلاق ما حدث في قطاع غزة من اقتتال بين اخوة الدم والسلاح أدى بالنتيجة إلى قيام فريق بإقصاء فريق آخر واستئثاره بمقادير ومقدرات القطاع وسكانه وعزلهما بصورة شبه كلية عن الضفة الغربية المحتلة وسكانها في عملية تقطيع أوصال جديدة للوطن وتشتيت آخر لمواطنيه،ليس من قبيل المبالغة القول بأنها تسببت،عن قصد أو غير قصد،في إعادة القضية الفلسطينية إلى المربع الأول الذي كانت قد انطلقت منه قبل ستين عاماً.
أربعة أعوام عجاف مرت على رحيله المفاجئ ولم يزل السبب الحقيقي لذلك الرحيل لغزاً محيراً أو أنه أُريد له أن يبقى طلسماً بلا حل،في حين يتزايد اقتناع الفلسطينيين داخل وخارج الوطن بأنه قد اغتيل غدراً عن طريق دس السم الزعاف في جسده الطاهر، وأن الصهاينة هم من ارتكبوا تلك الجريمة النكراء بإيعاز وتشجيع ومباركة من حكومة الولايات المتحدة أو بتواطؤٍ منها في أقل تقدير،بالنظر إلى التهديدات المتكررة له بالقتل من قبل رئيس حكومة كيان العدو السابق وعميد مروجي الإرهاب الرسمي في العالم أرئيل شارون وبعض معاونيه وحالة الحصار الخانق التي تم فرضها على مقره في رام الله من قبل حكومتي تل أبيب وواشنطن وحكومات عواصم غربية متآمرة وعربية متواطئة.
فبالعودة قليلاً إلى الوراء واستذكار ما حدث قبل ثماني سنوات،يمكن الخُلوص إلى القول بأنه بعدما فشلت سياسة "كسر الحنك ولي العنق" الأميركية مثلما فشلت من قبلها سياسة "العصا والجزرة" الأميركية أيضاً في ثني الراحل الكبير عن مواقفه الوطنية والقومية الثابتة من القضية الفلسطينية وقضية الصراع العربي الصهيوني بشكل عام إبان ترؤسه الوفد الفلسطيني الذي شارك في مفاوضات كامب دافيد عام 2000،كان متوقعاً أن تتخذ إدارة الرئيس الأميركي الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون في حينه موقفاً عدائياً،وحتى انتقامياً منه ومن القضية الفلسطينية على حد سواء.وكان متوقعاً أن يتسرب ذلك الموقف من كلينتون إلى خليفته الجمهوري جورج بوش بشكل تلقائي.
وبفعل تقوقع "الاتحاد السوفييتي السابق" وانحسار نفوذه مع انفراط عقد جمهورياته وخروجه من الساحة الدولية كقوة عظمى ثانية في العالم واستئثار الولايات المتحدة بالقطبية الواحدة،بات من غير المألوف أو المقبول من وجهة النظر الأميركية أن يتلفظ أي زعيم أو قائد في العالم مهما علا شأنه وبلغ نفوذه بكلمة "لا" في وجه الإدارة الأميركية أو رئيسها أو حتى أصغر موظف فيها.فكيف يتأتى إذاً ل ياسر عرفات وهو في ذلك الحصار الحديدي الذي فُرض عليه في كامب دافيد أن يجرؤ على قول "لا" بالفم الملآن لرئيس أكبر وأعظم دولة بل الدولة العظمى الوحيدة في العالم ولكل طاقم إدارته الذي كان يتشكل من عتاة المحافظين الجدد والذي كان يشرف على المفاوضات الفلسطينية الصهيونية ويزعم رعايته لها؟ وطالما أنه قال ذلك فعلاً فقد كان لزاماً عليه هو وشعبه أن يدفعا الثمن غالياً،وهو ما حدث فعلاً!!
سُجل ل "الختيار" أنه حافظ أثناء تلك المفاوضات الموجهة والمعقدة على كامل صلابته ورباطة جأشه وظل متمسكاً بالثوابت الفلسطينية وبالأخص سيادة الفلسطينيين على القدس المحتلة عام 1967 بما فيها المسجد الأقصى المبارك.وكما كان عهدنا به دائماً وأبداً لم يخضع ولم ينحن أمام كل الضغوط الأميركية والدولية والعربية التي مورست عليه وعلى الوفد الفلسطيني الذي كان يرافقه والتي كانت تفوق قدرتهما على الاحتمال،خاصة عندما تأكد لهما أن الرئيس بيل كلينتون قد انتقل من دور الوسيط الذي يفترض أن يكون نزيهاً وحيادياً إلى دور الشريك الكامل للوفد الصهيوني الذي كان يرأسه رئيس حكومة تل أبيب آنذاك أيهود باراك،وأصبح همه الرئيسي تنفيذ الأجندة الصهيونية على حساب القضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية المشروعة التي أكدتها القرارات الدولية التي صدرت عن الأمم المتحدة وفي مقدمها 181 و194 و242 و338 ومرجعية مؤتمر مدريد ومبدأ الأرض مقابل السلام.
وما من شك أن بيننا من تابعوا تلك المفاوضات عن قرب ولا زالوا يتذكرون حجم الإساءة البالغة التي وجهتها وزيرة الخارجية الأميركية في إدارة كلينتون حينذاك الصهيونية مادلين أولبرايت للرئيس الفلسطيني عندما انفجرت في وجهه بكل عهر وفجور ووقاحة وحقد مذكرة إياه بنبرة ملؤها التهديد والوعيد بأنه "في حضرة رئيس أكبر دولة في العالم"، متناسية أنها كانت هي ورئيسها وكل طاقم إدارتهما في حضرة زعيم وقائد واحدة من أشرف وأنبل وأسمى الثورات التي عرفها التاريخ على مر العصور.وما من شك أيضاً في أن ذلك الموقف الوطني والتاريخي للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وما خلفه من أثار وانطباعات إيجابية كثيرة في نفوس الفلسطينيين على مستوى السلطة والشعب داخل وخارج الوطن باعتبار أنه شكل ضربة قاسمة للسياسة الأميركية المنحازة للكيان الصهيوني والعاجزة عن القيام بدور الوسيط النزيه والحيادي في عملية السلام المرجوة قد مثل "القشة التي قسمت ظهر البعير" في موقف الولايات المتحدة وإدارة الرئيس بيل كلينتون من الرئيس الفلسطيني والقضية الفلسطينية على حد سواء.
فالرئيس كلينتون الذي كان يطمح وقتها إلى تتويج ولايته الثانية بإنجاز سياسي دولي من العيار الثقيل كتوقيع اتفاقية سلام بين الفلسطينيين والصهاينة دون ما اعتبار منه لماهية تلك الاتفاقية يخوله الترشيح للحصول على جائزة نوبل للسلام،راعه أن يحرمه الرئيس الفلسطيني الراحل بذلك الموقف المبدئي من الأمل في تحقيق حلمه،مع أن الحقائق دللت فيما بعد على أن موقف الرئيس عرفات لم يكن السبب المباشر أو غير المباشر وراء انحسار وتضاؤل آمال كلينتون في الحصول على الجائزة المبتغاة بقدر ما كانت الخديعة التي أوقعه في شركها شريكه وحليفه أيهود باراك هي السبب عندما أقنعه بأن "الظروف السياسية الدولية والإقليمية قد نضجت لإجراء تلك المفاوضات وأن السلطة الفلسطينية قد بلغت من اليأس والقنوط وقلة الحيلة ما أصبح يجعلها مستعدة للقبول بأي حل ممسوخ يُعرض عليها"!!فعلى خلفية تلك الخديعة جاءت الدعوة المرتجلة فيما بعد لمفاوضات الدم التي شهدها منتجع "شرم الشيخ" المصري في ظل المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال الصهيونية ضد الفلسطينيين إثر الاقتحام الشاروني الهمجي للمسجد الأقصى المبارك بتدبير من باراك وحماية من حكومته وموافقة من حكومة واشنطن.وكما كان متوقعاً فقد أفشل باراك تلك المفاوضات تماماً كما أفشل من قبل مفاوضات كامب دافيد،الأمر الذي حال دون حصول كلينتون على جائزة نوبل للسلام وحرمه هو الآخر من العودة إلى السلطة بعد خسارته المدوية في الانتخابات العامة الصهيونية أمام زعيم حزب الليكود آنذاك الإرهابي آرئيل شارون.
وبرغم تيقن الرئيس بيل كلينتون وإدراكه لمسؤولية باراك الكاملة في فشل مفاوضات "كامب دافيد" و"شرم الشيخ" فيما بعد وقناعته التامة التي لا يلتبسها أي شك بحسن نوايا الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وسعيه الصادق والأمين وراء السلام العادل والمشرف،إلا أنه ظل على موقفه المعادي لعرفات والذي انتقل بناءً لتوصيةٍ رئاسية أميركية في ما بعد إلى خليفته جورج بوش الابن،الذي بدوره عمل بنصيحة المحافظين الجدد والمسيحيين الصهيونيين في الولايات المتحدة والإرهابي آرئيل شارون فنفى عن الرجل بشكل اعتباطي وأهوج صفة الشراكة في مفاوضات السلام المتعثرة بين الفلسطينيين والصهاينة.يومها مثل ذلك الموقف "كلمة السر الصهيونيةـ الأميركية" الخاصة بمستقبل الرئيس الفلسطيني المعنوي و"الجسدي"!!ومن سوء الطالع أن هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 الدامية جاءت هي الأخرى لتمثل فرصة "نادرة" للإرهابي آرئيل شارون الذي استغلها بتأييد ودعم من المحافظين الجدد والمسيحيين الصهيونيين أبشع استغلال ليتفنن في ممارسة الضغوط تلو الضغوط على السلطة الفلسطينية بصورة عامة وعلى عرفات بشكل خاص. ولطالما تمنى له الموت من قبل وعمل من أجله لما كان جنرالاً في الجيش وعندما أصبح وزيراً وبعدما أصبح رئيساً للحكومة.
يلتقي جميع العقلاء حول حقيقة أنه بعدما شرّف الزعيم الخالد ياسر عرفات العرب بتفجيره الثورة الفلسطينية المباركة في الفاتح من كانون الثاني 1965 وزادهم شرفاً فوق شرف بنصر "الكرامة" في 21 مارس / آذار 1968 الذي أخرجهم من ذهول هزيمتهم،كان من الطبيعي أن يتحول إلى هدف دسم لمؤامرات شرسة يحيكها ضده جميع جنرالات الكيان الصهيوني وفي مقدمهم آرئيل شارون،ومثله كذلك إخوانه في قيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" التي تزعمت النضال الوطني الفلسطيني منذ عام 1965. ولما كان متعذراً علي سرد جميع المؤامرات ومحاولات الاغتيال التي تعرض لها الزعيم الفلسطيني "أبو عمار" ونحن نُحيي ذكرى أربعة أعوام على رحيله،فإنني أرى أن من الضروري التذكير بالكم الهائل من الجواسيس الذين زرعهم جنرالات الكيان الصهيوني العنصري بمن فيهم شارون بين ظهرانيه واستطاع بحسه الأمني العالي ويقظة المحيطين به اكتشافهم وإحباط محاولاتهم الدنيئة.كما أرى أن من الضروري التذكير كذلك بالهجمات الإجرامية للطيران الصهيوني التي استهدفت أماكن تواجده في العاصمة اللبنانية خلال اجتياح عام 1982 وحصار بيروت الذي استمر ثلاثة أشهرٍ متواصلة، والتي نُفذت بأوامر مباشرة من الإرهابي آرئيل شارون نفسه الذي كان وقتذاك وزيراً للدفاع في حكومة تل أبيب.وهل استهدفت جريمة الإغارة على حمام الشط في العاصمة التونسية،على سبيل المثال لا الحصر،أحداً غير القائد الذي قض مضاجع جميع الصهاينة بمن فيهم الإرهابي شارون؟!وهل كان لغير الصهاينة وعلى رأسهم شارون كل المصلحة في غياب عرفات عن مسرح العمل السياسي والحياة كلها؟!فكل الأدلة والوقائع والأحداث السياسية التي جرت منذ قيام ياسر عرفات بتفجير ثورته وحتى لحظة ترجله ورحيله الغامض "في الساعة الرابعة والنصف من فجر يوم الخميس الحادي عشر من شهر تشرين الثاني 2004 " وبالأخص أثناء حصاره في مقر الرئاسة،أشرت بأصابع الاتهام في جريمة قتله إلى جنرالات الكيان الصهيوني وبالأخص رئيس وزرائها آنذاك الإرهابي الكبير آرئيل شارون،بتآمرٍ أميركي وتماهٍ غربي وتواطؤ عربيٍ.
لقد افترى الجميع علي "الوالد" في مماته كما افتروا عليه في حياته قبل ذلك!! نعم افتروا عليه في حياته عندما جعلوا من الإرهابي شارون "داعية سلام" واعتبروه هو "عقبة في طريق السلام"!! وهو مستمرون في الافتراء عليه حتى الآن وهو موارى الثرى،لأن "العقبة" المزعومة اغتيلت ومضى على اغتيالها أربعة أعوام عجاف ولم يُقم لا الإرهابي القديم "داعية السلام" ولا خليفته الحالي الإرهابي الأكبر أيهود أولمرت خلالها بأي خطوة على طريق السلام،بل على العكس من ذلك فقد عاث الاثنان في الأرض فساداً ما بعده فساد.نعم عاش الراحل الكبير الردح الأخير من حياته مُفترىً عليه وقضى مُفترىً عليه.عاش وقضى مُفترىً عليه من إخوانه ورفاقه وشعبه وأمته كما من الجنرالات وكبيرهم وخليفته والمتآمرين والمتواطئين معهم والمتسترين على جرائمهم،وسيظل مفترىً عليه طالما أن رحيله بتلك الطريقة بقي لغزاً بلا حل،وطالما أن السلطة الوطنية الفلسطينية بقيت محجمةً عن إصدار البيان الشجاع الذي ينتظره الشعب الفلسطيني بفارغ الصبر والذي يُفترض أن توضح فيه كل الملابسات التي أحاطت بالمرض المفاجئ لزعيمهم وعلاجه في مستشفى بيرسي الفرنسي ووفاته فيه،وأن تسمي فيه الجهات التي وقفت وراء جريمة اغتياله والأشخاص الذين نفذوها بدم بارد في وضح النهار!!
وبما أن عشرات المؤلفات والدراسات ومئات المقالات والتحليلات السياسية التي نُشرت خلال الأعوام الأربعة الماضية وتناولت لغز رحيل "الرقم الفلسطيني الصعب" ياسر عرفات قد أضافت القناعة تلو القناعة لدى أغلبية الفلسطينيين بأن الشهيد الغالي قد مات مسموماً وأن الصهاينة وقفوا وراء اغتياله بتشجيع ومباركة من الولايات المتحدة وتماهٍ وتواطؤ من آخرين كما أسلفت سابقاً،فإنه ما لم تضع السلطة الوطنية الفلسطينية ً "العتيدة"الحقيقة كاملة بين أيدي الفلسطينيين سيبقى الراحل الكبير مُفترىً عليه.نعم سيبقى عرفات المفترى عليه حتى يتم إنصافه بالكشف عن سر عشائه الأخير ويلقى الذين ارتكبوا جريمتهم بحقه والذين وقفوا وراءهم العقاب الذي يستحقون.وسيبقى دمه أمانة في أعناق الذين أحبوه حتى يُكشف النقاب عن سر اللغز الذي أحاط برحيله.ترى هل يتحقق ذلك ولو متأخراً،أم أن رحيله سيبقى لغزاً محيراً إلى أمد لا يعرفه إلا الله والعارفون ببواطن الأمور؟ألف رحمة عليك يا من كنت والداً عطوفاً لجميع الفلسطينيين وأخاً صادقاً لكل العرب وأحرار العالم.ألف رحمة عليك أيها الغائب الحاضر،الغائب عنا بجسدك والحاضر بيننا بروحك الطاهرة ويا من ستبقى حاضراً في قلوب وعقول أبناء شعبك وأمتك الأوفياء وأصدقائك الصدوقين في مختلف بلدان العالم إلى الأبد.يعلم الله كم يفتقدك شعبك يا أبا عمار!!نعم يفتقدك شعبك أيها الصادق الأمين يا من كنت صمام أمان قضيته ووحدته الوطنية إنه يفتقدك كما لم يفتقد شعب في العالم قائداً أو زعيماً أو رئيساً سابقاً له،كم يفتقدك!!