فؤاد حجازي و أدب المقاومة
قراءة في مجموعة حمام أم الرشراش
فؤاد حجازي كاتب متنوع الإنتاج قضى عمره في كتابة فنونا من النثر بين القصة القصيرة والرواية والمسرحية والمقال والكتابة التسجيلية ، مدفوعا في كل هذا وراء إيمان عميق وقوي بقضية ، ومحتضنا بقوة اتجاها أدبيا ، أسميه الأدب الملتزم ، فلا يمكنك أن تقرأ عملا له إلا وتستشعر فيه أن ثمة هدف أو قضية يدافع عنها الكاتب ويحرضك كمتلق على الدفاع عنها .لذلك لا نبالغ إذا قلنا أنه كاتب تحريضي أيضا
في أعمال حجازي بصورة عامة انحياز واضح للطبقة العاملة ولفقراء الوطن بصورة خاصة، وفى أعمال حجازي أيضا انحياز واضح ودفاع كبير عن أغلى وأهم أبناء الوطن الذين حاربوا واستشهدوا من أجل الدفاع عنه والحفاظ عليه من هجوم الأعداء ، إن قضية الأسرى المصريين وما أثير حولها يُعد حجازي أبرز من تناولها في أعماله ، بالجملة كما أشرت سابقا ، أدب حجازي ملتزم بقضايا الواقع والوطن ، التي هي في الأخير قضايا إنسانية خلاصتها الحق والخير والجمال الذي يسعى إليها كل أدب عظيم .
والكتاب الذي بين يدي " حمام أم الرشراش" مجموعة متنوعة من القصص القصير ، تختلف طولا وقصرا أو شكلا إلا أنها يضمها في النهاية خيط واحد هو الدفاع عن الوطن ، من خلال الوصف التفصيلي لما يحدث فوق أرض القتال .
يضم الكتاب إحدى عشرة قصة هي على الترتيب : غراميات أومباشي ـ الأمر الواقع ـ شريكان ـ نجمة سيناء ـ سلموا أنفسكم للمصريين ـ الشيطان ـ لا وقت للكلام ـ قصفة الحرب ـ الغزالة ـ حمام أم الرشراش ـ زعل أمريكا .
من غراميات أومباشى(القصة أولى ) إلى زعل أمريكا (القصة الأخيرة) يأخذنا فؤاد حجازي في رحلة تبدأ من قبيل حرب 1967 إلى احتلال أمريكا للعراق 2003 ، أي عبر أربعين عاما تقريبا ، يؤكد فيها / أو تؤكد فيها القصص أن عدونا الأول والأخير هو إسرائيل / أمريكا ، وأننا بدورنا لابد أن نقاوم ، لابد أن نرفع سلاح ولا نهادن .
يمكنك أن تقول أن الفكرة المركزية التي يرتكز عليها الكتاب بقصصه المختلفة تتلخص في جملة واحدة تقول : هناك عدو جبار يقف على الحدود لابد من مقاومته ، والنصر في النهاية مضمون لأننا أصحاب حق ، أو النصر مضمون لأن ما زال فينا رمق للمقاومة والقتال فجميع القصص التي تصف معركة أو التي تقوم على حدث حربي تنتهي رغم الصعوبات الكبيرة بالنصر ، انظر قصص: شريطان والأمر الواقع وسلموا أنفسكم للمصريين وقصفة الحرب وغيرها .
ولعل هذا إلى يسلمنا إلى بناء القصص عند فؤاد حجازي ، يعتمد حجازي في بناء معظم قصص المجموعة على الاهتمام بالحدث وهنا يلعب الوصف الخبري على لسان راوٍ عليم خافت الصوت دورا كبيرا في البناء ، ويمكن الوصف الراوي / المؤلف من تقديم أكبر قدر من المعلومات ، وهنا لابد لي أن أقول كلمة تخص أدب حجازي وكل أدب عظيم ، وهي أن الأعمال الأدبية الجيدة هي التي يمكنها أن تقدم لنا خبرة حقيقية بالحياة ، وحجازي هنا يقدم لنا خبرة حقيقية بالقتال الحربى ووسائله ، قد تقول ـ أيها القارئ ـ إن ذلك يمكن أن تقدمه الكتب المتخصصة في العسكرية ، فأقول لك إن الخبرة هنا فنية ، إنها خبرة حقيقية ولكنها غير مباشرة تنساب إلينا في رفق وليونة عبر الأحداث والمواقف .
على أية حال ثمة ملمح فني بنائي آخر في قصص المجموعة يتمثل في التضافر بين الحدث الحربي والحدث الإنساني ، فالمقاتل في الوقت الذي يكون فيه مقبلا على عمل حربي لا ينسى أهله زوجته أو أبنائه أو خطيبته (انظر قصفة الحرب وشريكان وغيرهما ) إن هذا التضافر بين الجبل والبشر إذا جاز التعبير المجازي يُعد سمة فنية ملازمة لمعظم القصص .
كما إن الاهتمام بالحدث من خلال الوصف كان أحد أسباب قلة الحوار في معظم القصص ، وقلة الحوار في القصص لا تعني بالضرورة عيبا فنيا بل إن قلة الحوار هنا جاء في معظم القصص ضرورة فنية ، فلا وقت للكلام على حد عنوان إحدى القصص ، هنا حركة وفعل لا سكون ولا كلام .
وأقف الآن عند بعض القصص محاولا أن أتلمس فيها قدرات الكاتب الإبداعية وهي : : غراميات أومباشي ـ نجمة سيناء ـ سلموا أنفسكم للمصريين ـ حمام أم الرشراش ـ زعل أمريكا .
ونحن إذ نقف عند هذه القصص الخمسة لا يعني الحكم بالجودة أو الرداءة ، فثمة قصص أخرى تستحق الوقوف أيضا ولكن نقف عند هذه القصص لأنها تمثل في زعمنا نماذج متنوعة لقدرات الكاتب الفنية .
1 ـ غراميات أومباشي
هذه القصة نشرها المؤلف لأول مرة كما يشير في الهامش عام 1965 أثناء حرب اليمن ، فهي بشكل أو بآخر تصب في أدب الحرب ، وبطلاها محاربان الأول أومباشي والثاني ممرضة في مستشفى عسكري . تبدأ القصة بجملة وصفية على النحو التالي :
ثمة نوافذ سهرانة تلوح من بعيد والقاهرة ساجية تلعق أقدام الليل أسفل التل المقام عليه مدينة نصر ، وتبدو العمارات كأنها بنيت من منتصفها " ص 5.
إن هذه البداية الوصفية تشي بالأحداث فيما بعد ، فالليل والسكون والتل والعمارات الغارقة في الرمل كلها إشارات واضحة إلى هذه العلاقة أو العلاقات المبتسرة للأومباشى ، كما أن فيها إشارة واضحة إلى هذه العلاقة الآنية بالممرضة ، حيث ينتهي هذا اللقاء الطويل في ليل القاهرة بعد أن تكاشف الاثنان بخواطرهما بشكل صريح أو خفي إلى الفراق .
إن القصة تقوم في بنائها على تضافر بين الحوار الخارجي والحوار الداخلي لطرفين الأومباشي إبراهيم والممرضة هنية ، نقرأ ختام القصة :
" ـ رد .. لماذا السكوت ؟
شملها بنظره في حيرة .. أنت التي كنت أحدث نفسي عنها .. هي ليست كأخريات .
قال في ضجر :
ـ وهل هناك رد .
ثم استطرد في أسى :
ـ ألن تتزوجي المهندس ؟
عمت كيانها الضئيل فرحة مفاجئة
ـ أنت صدقت . ص 10 .
هل ثمة علاقة بين جملة البداية الوصفية وجملة النهاية الحوارية ؟ أعتقد أن الإجابة ستكون نعم ، كما أشرنا من قبل بيد أن أهم من ذلك أن القيمة الفنية للقصة تتجلى في هذا التفاعل بين الوصفي والحواري وبين الحواري الخارجي والحواري الداخلي ، بين ما يعتمل في النفس وما يظهر على السطح ، من هنا تتجلى حيوية هذه القصة وارتفاع قيمتها الفنية .
2 ـ نجمة سيناء :
في القصة يتحول الراوي إلى مروي له يتلقى الأحداث من راوٍ داخل النص ، فالقصة تقوم على تكليف الراوي ـ وهو محرر في جريدة ـ من قبل رئيس التحرير بعمل كتاب عن الذين حصلوا على نجمة سيناء بعد انتصار 1973 ( ألا تذكرنا هذه القصة برواية يوسف القعيد ـ أطلال النهار ) ويكون ذلك عن طريق عمل تحقيق أو حوار صحفي مع الذين حاربوا مع أصحاب النجمة ، ويكلف الراوي بلقاء ثلاثة يمثلون البديل / أو رواة السيرة البطولية للأبطال الثلاثة ، فالمقدم البطل عبد الحميد غزي راويه محمد عيسى أو (أبو صاروخ) والنقيب عادل شلبى يروي عنه أحد العاملين في مطعم بالزقازيق ، والمقدم نادر جمعة يروي عنه عم سيد بندق كهربائي نجمة سيناء .
إن بناء القصة بهذا الشكل حيلة فنية للمؤلف استطاع من خلالها أن يروي لنا ثلاث قصص بطولية متنوعة لثلاثة أبطال تمثل في النهاية نموذجا للمقاومة والدفاع عن الوطن ، والرواة أيضا الثلاثة أبطال ، مثلهم مثل المروي عنهم ، إن حجازي بهذا البناء القصصي حاول أن يتجاوز التقليدي في القص ، ولذلك تعد هذه القصة من القصص المميزة في المجموعة .حيث وظف ببراعة المروى له
3 ـ سلموا أنفسكم للمصرين :
هذه القصة تصور ملحمة بطولية لأبناء الشعب المصري وكيف استطاعوا استرداد مدينة القنطرة ، وهى في ذات الوقت تصور هذه البطولة منذ الاحتلال 1967 حتى التحرير 1973 ، لذلك تكثر فيها الشخصيات وتتنوع ، وتبقى استراتيجية فؤاد حجازي الرئيسية في القص مطبقة هنا وهي تضافر الحربي مع الإنساني ، فالبطل المقاتل مهما كانت قوته وشجاعته يظل إنسانا له عواطفه الإنسانية الرقيقة ، فعاصم الحياني يسلم الشيخ شلاش المندوه ورقة قبل أن يقتحم الحصن ، وعندما يفتحها الشيخ بعد وفاة عاصم نقرأ معه منها :
" سايق عليك النبي يا أمة ما تخلي أخويا يسافر العراق تاني لما يجي أجازة .. الأرض لو فضلت من غير عناية حتبور وأولادي لسة صغيرين " ص 4 .
ورمضان ابن الشيخ شلاش الذي مات شهيدا من جراء لغم إسرائيلي كان مغرما بصبرية ابنة خميس زيدان ، وخميس زيدان مهموم بابنته ويعيش غريبا عن أهله وهكذا معظم الشخصيات البطولية ، بل إن الشيخ شلاش المندوه نفسه إذا جاز التعبير أن نعده بطلا أيضا نقطة ضعفه النساء ، فهو ميال لصبرية ابنة خميس والتى رفض أن يزوجها سابقا لابنه .
والقصة ـ على طولها ـ استطاع حجازي أن يحكم بناءها ، فلا يمكنك أن تحذف منها شيئا فثمة تلاحم خفي بين البداية والنهاية ، وأقول خفي والأصح أن أقول فني ، تقول جملة البداية :
ما إن لمح عاصم الحياني ، عودة الطائرات المصرية من ضربتها الجوية في عمق سيناء حتى تصرف تلقائيا " ص 29 . وتصرف عاصم الحياني تصرف عسكري محض يقدم لنا فيه المؤلف نموذجا بطوليا للشجاعة والبسالة المصرية ، يستشهد في نهايته البطل ، ولكن ينهزم في الوقت ذاته العدو ويفتح الحصن .
إن هذه التلقائية الحربية البطولية ، يوازيها تلقائية أخرى في جملة النهاية التي تأتي على لسان البطل غير الشهيد الشيخ شلاش المندوه ، فبعد تدمير مركز قيادة العدو في القنطرة وخروج اليهود ،يهجم الأهالي على المعسكرات الإسرائيلية خارج المدينة لجمع الغنائم ، فيحذرهم الشيخ خشية عودة اليهود ولكنهم لا يأبهون لتحذيره ، فيعود إلى البيت مع معاونيه ، وهناك يطلب من امرأتيه حلب النوق .
تقول جملة النهاية :
" أرسل الحليب مع معاونيه لتوزيعه على الجنود قائلا :
ـ يمنحهم القوة " ص 52 .
إن هذه القوة التي تمنح للجنود عبر الحليب ، يحتاجها الشيخ شلاش مثل الجنود ، إنها القوة التي سوف تجعله يضم صبرية إلى حريمه ، لكي تستمر الحياة وتبقى المقاومة ، وهو أيضا تصرف تلقائي من الشيخ مثل تصرف عاصم الحياني تماما .
4 ـ حمام أم الرشراش :
هذه القصة أقصر قصص المجموعة ، وقد أحسن المؤلف صنعا عندما جعلها عنوانا للكتاب ، وحسن صنيع المؤلف ليس عفويا أبدا ، لأن هذه القصة على صغر حجمها تلخص رؤية المؤلف الموزعة عبر جميع القصص الأخرى للكتاب .
وخلاصة هذه القصة الأمثولة أن حمام أم الرشراش يطير في الصباح فوق أرصفة ميناء العقبة يلتقط الحب ، وبعدها يطير إلى ميناء إيلات القريب يلقي فضلاته فوق الأرصفة والسياح والعرايا وفى المساء يعود إلى أعشاشه في العقبة ، وما يقوم به الحمام أرق الحكومة الإسرائيلية ، فاشتكت إلى الحكومة الأردنية التى حاولت أن تجد حلا ، ولكن الحمام لا يعبأ بأية حلول سياسية فما زال يلقي بفضلاته على اليهود والسياح في إيلات .
ومفتاح القصة في جملة الختام " وما زال الجدل مستمرا .. دون أن يتمكن أحد من منع الحمام من شن غاراته اليومية على إيلات " ص 88 .
فهذا الحمام رمز ـ فكما قلت هذه أمثولة ـ للمقاومة الشعبية التي يأبى الحكام العرب أن يضفوا عليها أية شرعية، إذعانا لبوش والغرب .
5 ـ زعل أمريكا
هذه آخر قصص المجموعة ، فبعد غارت الحمام اليومية على إيلات لابد أن تزعل أمريكا .قد تبدو هذه القصة أقل قصص المجموعة على المستوى الفني ، لكنها من ناحية أخرى ختام جميل لقصص المجموعة ، إن الراوي / المؤلف يزاوج في الأحداث بين واقعين مختلفين الآن وأمس البعيد ، الآن والسفن الحربية تمر في قناة السويس لاحتلال العراق ، وأمس البعيد عندما دُمرت إيلات بصاروخين مصريين ، إنها قصة قائمة على المفارقة بين ماضٍ مجيد وحاضر تعيس ، ولكن هذه المفارقة في النهاية تدفعنا إلى التمسك بالمقاومة رمز الكرامة التي يجب أن نعض عليها بالنواجذ ، فما أحوجنا إليها الآن .
د. محمد عبد الحليم غنيم