ثورة الجزائر والمقاومة الفلسطينية التماثل والتمايز
(2 من 3)
كان الإعلان عن تسوية استقلالية في الجزائر عام 1962، بعد ثورة المليون ونصف مليون شهيد ، في مقدمة العوامل التي دفعت العديد من شباب فلسطين إلى تشكيل نويات تنظيمات الكفاح المسلح . وكثيرا ما تساءل البعض كيف توصل ثوار الجزائر إلى تسوية سياسية مع حكومة ديغول وضعت النهاية الحاسمة لاستعمار استيطاني عمره مائة واثنتين وثلاثين سنة، بعد ثورة لم تبلغ ثماني سنوات، في حين لم تستطع حركة المقاومة الفلسطينية الوصول إلى تسوية مع "ديغول" صهيوني طوال سبعة وثلاثين عاما؟ كما هناك من يتساءلون عن الأسباب التي مكنت ثوار الجزائر من ضبط صراعاتهم اللامجدية ضمن إطار وحدة الصف، لحين الوصول للتسوية الاستقلالية ثم تفجرت بعد ذلك، في حين لم يستطع قادة منظمات المقاومة الفلسطينية الوصول لوحدة الصف برغم اتفاقهم على وحدة الهدف، ألا وهو التحرير والعودة؟
وفي محاولة الإجابة عن التساؤلين تناولت في المقال السابق التمايزات فيما بين الواقع الجزائري والفلسطيني، برغم وحدة الانتساب القومي والانتماء للفضاء الثقافي العربي الإسلامي. وهي التمايزات القائمة على أصعدة الموقع الجغرافي والمساحة والتضاريس، وطبيعة ودور الاستعمار الاستيطاني في كل من الجزائر وفلسطين، والعمق الاستراتيجي للاستعمار الاستيطاني في الحالين. وقد انتهيت إلى أن التمايزات على الصعد الثلاثة كانت في مصلحة ثورة قطرية البعد في الجزائر منفتحة على البعد القومي، فيما هي على العكس تماما بالنسبة لأي حركة مقاومة فلسطينية ذات بعد قطري وغير وثيقة الصلة استراتيجيا بعمق قومي عربي تقدمي وتحرري. وأن ذلك ما لم يعيه بالقدر الكافي غالبية القادة الشباب، الذين اسهموا في تشكيل منظمات المقاومة الفلسطينية مطلع ستينات القرن الماضي.
غير أن التمايزات على الصعد الثلاثة السابق بيانها لم تكن وحدها التي تسببت في جعل منجزات حركة المقاومة الفلسطينية محدودة للغاية، وإنما كان هناك تمايزان آخران اسهما في محدودية الانجازات وتعثر الاداء.
الأول – تمايز الواقع العربي والدولي غداة انطلاق ثورة الجزائر عام 1954 عما آلت إليه الحال عربيا ودوليا سنة 1963 حين برزت على المسرح نويات تشكيلات منظمات المقاومة الفلسطينية.
ففي الوقت الذي كان فيه المناخ العربي والدولي ملائما تماما لانطلاق ثورة الجزائر، كانت الظروف على العكس تماما حين أطلقت رصاصة "فتح" الأولى مطلع عام 1965. وهذا أيضا ما يبدو انه لم يأخذه في حسبانهم غالبية الشباب الذين شكلوا منظمات المقاومة الفلسطينية مقتدين بتجربة الجزائر والنجاح المتحقق الذي صفق له العالم ، وبخاصة العالم الثالث.
فحين انطلقت ثورة الجزائر في الأول من نوفمبر/ تشرين ثاني 1954 كانت فرنسا لا زالت تخوض حربا ضروسا في الهند الصينية، ولم تضمد بعد جراحات الحرب العالمية الثانية وهزيمتها أمام النازية. ولم يكن خافيا أنها على ابواب مرحلة تصفية الاستعمار القديم. وبالتالي يمكن القول بأن الثورة الجزائرية انطلقت في الزمن التاريخي المناسب، مما وفر لها فرص تحقيق إنجازات عسكرية وسياسية، وفرضت ր¹لى ديغول التوجه للمفاوضات والوصول إلى تسوية تنقذ ما يمكن إنقاذه من علاقات اقتصادية وثقافية مع الجزائر المستقلة.
وفي الوقت ذاته كان المغرب يعيش حراكا وطنيا نشطا بعد إقدام فرنسا سنة 1953 على نفي الملك محمد الخامس، وتنصيب بن عرفة مكانه. وكانت تونس تعيش ذروة حراكها الوطني الذي بدأته سنة 1951، برغم أن بورقيبه جنح لعقد تسوية مع منديس فرانس. وبالتالي توفرت في الساحتين المغربية والتونسية فرص تشكيل عمق داعم للحراك الثوري الجزائري. فضلا عن أن الحكومة الفرنسية ونظام فرانكو في أسبانيا كانا يمران في مرحلة من الضغط المتبادل، مما جعل منطقة الريف المغربي – الملاصقة للغرب الجزائري - تتيح مجالا لاستيراد السلاح وتسلل الثوار. وبهذا توفر قدر من العمق الفاعل والمؤازر، بحيث كان الجوار الإقليمي مواتيا للحراك الثوري الجزائري .
وفي عام 1954 كانت حركة الضباط الأحرار بمصر قد استكملت تحولها الواضح إلى ثورة قومية عربية. وكان جمال عبدالناصر ورفاقه قد انتهوا في فبراير / شباط من العام نفسه إلى صياغة أسس السياسة الخارجية لمصر الثورة، وقد اتفقوا على أن نجاح ثورتهم يتطلب تكتيل الجهود العربية المتوفرة والمتاحة في الاقطار العربية التي نالت قدرا من الاستقلال، والالتزام بالعمل على تحرير بقية الأقطار العربية الخاضعة للاستعمار، والتفاعل بأكبر قدر مستطاع مع حركات التحرر الأفريقية والإسلامية.
وكانت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية ترعى مكتب "المغرب العربي"، المتولي دعم ومساندة حركات المقاومة الوطنية في أقطار المغرب الثلاثة: تونس والجزائر والمغرب، فيما كانت الحكومة الليبية برئاسة مصطفى بن حليم، الذي اتم دراسته في مصر ويكن لمصر وعبد الناصر الاحترام والتقدير، تبدي قدرا ملحوظا من الاتفاق مع نشاط الثورة المصرية في مجال دعم ومساعدة حركات التحرر في المغرب العربي.
وكان الواقع العربي يومذاك يتميز بثلاث ظواهر: الأولى صعود الحركة القومية العربية إلى أن تصبح الحركة الأولى على المسرح العربي، وتحولها الى تيار جماهيري ملتف من حول قيادة عبد الناصر. أما الظاهرة الثانية فهي آن حدة الصراع فيما بين الحركة القومية العربية بقيادة عبد الناصر وبين القوى العربية المحافظة والشيوعية لم تكن بذات الحدة التي بلغتها فيما بعد، والثالثة، أنه كان هناك إجماع عربي على دعم حركات التحرر في المغرب العربي التقت على تأييدها ودعمها الأنظمة والشعوب ما بين المحيط والخليج. وبذلك توفر لثورة الجزائر لحظة انطلاقتها وخلال السنوات التي كانت تحتاجها لتثبيت أقدامها عمق استراتيجي عربي داعم، تشكل القاهرة محوره.
وكانت ثورة مصر قد كلفت المرحوم فتحي الديب بمتابعة نشاط حركات التحرر في المغرب العربي الكبير، ومن لحظة لقائه الأولى مع أحمد بن بللا – موفد جيش التحرير الجزائري- شعر نحوه بقدر عال من الثقة ما دفعه الى أن يقدمه لعبدالناصر، وان يبدأ معه سلسلة من عمليات تهريب السلاح عبر ليبيا وتونس، بتعاون تام من الحكومة الليبية وقيادة الشرطة فيها ، على الرغم من النفوذ البريطاني والأمريكي الواسع في ليبيا يومذاك . كما وظفت العلاقات المصرية الاسبانية في تيسير تهريب السلاح وتسلل المناضلين من المنطقة المحتلة من قبل أسبانيا من المغرب. وعلى أرض القاهرة تم تدريب العديد من الكوادر القيادية من طلبة الجزائر في مصر، الذين كان من بينهم بوخروبة محمد (الرئيس بومدين). ولقد تم تهريب السلاح للجزائر من مخازن الجيش المصري، فضلا عن المشترى من ليبيا وإيطاليا.
وليس أدل على مستوى التفاعل العربي مع ثورة الجزائر يومذاك من أن الملك سعود أرسل شيكا بمبلغ مائة ألف جنيه لدعم تسليح ثوار الجزائر الى جمال عبدالناصر، الذي سلمه لفتحي الديب وقام بالصرف منه على شراء السلاح وتهريبه الى داخل الجزائر. باستخدام يخت الملكة دينا ، ملكة الأردن السابقة.
وفي القاهرة، وتحت رعاية عبدالناصر، تم في شباط/ فبراير 1955 تشكيل جهة التحرير الوطني الجزائرية، التي شارك في تشكيلها ممثلو كل من: جمعية العلماء برئاسة الشيخ محمد البشير الابراهيمي، وجماعة مصالي الحاج، وحزب البيان برئاسة فرحات عباس، واللجنة المركزية المنشقة، وثلاثة من قادة جيش التحرير الناشىء في الجزائر: احمد بن بللا، ومحمد خيضر، وحسين آيات أحمد. وقد تم توقيع اللائحة الداخلية لجبهة التحرير من الجميع تأكيدا لالتزامهم بمنهج المقاومة بقيادة جيش التحرير. وبتشكيل الجبهة من أبرز الأحزاب الوطنية أمكن الحيلولة دون نجاح الدعوة الفرنسية للتهدئة من خلال الأحزاب . وفي الوقت ذاته احتفظ جيش التحرير بوحدة البندقية الجزائرية. وما كان هذا الإنجاز الكبير ليتحقق لولا ما كان لعبدالناصر وثورة مصر من مكانة عند قادة الأحزاب وما بلغه جيش التحرير من قوة داخل الجزائر، كما أنه في تشكيل الجبهة في القاهرة ما يؤكد عمق ثقة المشاركين بثورة مصر وقيادة عبد الناصر، وقوة تأثير الثورة والقائد عند صناع القرار الجزائري مدنيين وثوارا يومذاك.
وكان لمحطة إذاعة "صوت العرب" يومذاك دور في منتهى الايجابية، إذ لم تعلن فقط اشارة انطلاق الثورة، وانما قامت بدور تحريضي كان له تأثيره. ولم تكن "صوت العرب" لتحقق ذلك النجاح لولا ما كانت قد اكتسبته من مصداقية عند المستمع العربي، الذي كان يأخذ ما يصدر عنها باعتباره ما ينطق به عبدالناصر، القائد الذي استحوذ على خيال الجماهير العربية في مرحلة صعود ثورة الجزائر. ولم يكن موقف الساحات العربية المشرقية أقل إيجابية تجاه شعب الجزائر وثورته من الساحة المصرية، التي مارست فعالية قومية باعتبارها كانت يومذاك على رأي الصحافي الفرنسي المعروف بنشوا ميشان، تمثل مخ العرب المفكر وقلبهم النابض. وبالتالي كان دعم الثورة وتأييدها الواضح في كل قطر عربي، وعلى مختلف المستويات، متميزا بكونه منتظما إلى حد بعيد في مسار قومي متكامل، وبتنسيق تام مع قادة الثورة الجزائرية، ودون أدنى حساسية أو شكوك تجاه أي منهم.
وبالمقابل أطلقت رصاصة المقاومة الفلسطينية الأولى عام 1965، يوم أن كانت إدارة الرئيس الأمريكي جونسون عاملة على استرداد المواقع التي تخلت عنها دول الاستعمار القديم، وتعزيز تلك التي وهنت فيها قبضة تلك الدول. كما كانت الإدارة والأجهزة الأمريكية قد انتهت إلى اعتبار إسرائيل الرصيد الاستراتيجي للمصالح الأمريكية في الوطن العربي، بعد أن اتضح عجز مختلف القوى العربية المحافظة وغير القومية عن التصدي بالكفاءة المطلوبة لتيار الحركة القومية العربية الذي كان لا يزال ملتفا من حول عبد الناصر، برغم الانشقاقات التي شهدها، وبروز فعالية قوى الإقليمية الجديدة، وما أخذت تمارسه من ضغوط على القيادة الناصرية.
ويومها كان المنطق القطري قد استعاد فعاليته، وكانت الحساسية القطرية في اشد مراحل توثبها، وقد شاع التشرذم والصراعات اللامجدية في أوساط التيار التقدمي العربي بعد انتكاسة ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 في العراق وانفصال الوحدة المصرية السورية في 28/9/1961. ويمكن القول بان الصدمة التي شكلها الانفصال، وبخاصة في أوساط القوى التي كانت تؤمن بأن الوحدة سبيل تحرير فلسطين، قد أسهمت في التوجه إلى تشكيل منظمات الكفاح المسلح الفلسطينية، بما لا يقل عن التأثر بأمثولة النجاح الجزائري
ويومها كانت حرب الإذاعات العربية على اشدها، وكان تحرير فلسطين والتقاعس عن العمل لتحريرها من أبرز محاور الصراع المحتدم فيما بين القوى الإقليمية التقليدية والجديدة، وبين التيار الناصري الذي فقد غير يسير من زخمه. وكانت مسألة "قوات الطوارىء الدولية" المتواجدة على حدود قطاع غزة وفي شرم الشيخ "قميص عثمان" الذي يرفعه أكثر من خطيب وكاتب في وجه عبد الناصر. ولم يكن "صوت العرب" قد احتفظ بما كان له من قوة التأثير، بعد أن غدا مشاركا في صراع الاخوة الأعداء وليس مشغولا فقط بالتحريض ضد قوى الاستعمار والصهيونية.
ولأن الشباب المنفعلين بما حدث شغلوا بالتنظيم واكتساب الأنصار بالدرجة الأولى، فانهم لم يعطوا الجهد اللازم لقراءة الواقع العربي والعالمي بالدرجة الكافية من الموضوعية والعمق، كما يبدو ان معرفتهم بتاريخ الحراك الوطني الفلسطيني والمداخلات العربية الرسمية كانت سطحية. ثم إنه لم تجر محاولة صياغة استراتيجية فلسطينية شاملة ومستمرة لادارة الصراع مع العدو الصهيوني، وبتفاعل القصور على المحاور الثلاثة افتقد العدد الأكبر من النشطين قدرة تحديد المسار الأكثر توافقا مع طبيعة الصراع، وإن لم يفقدرا الحماس للعمل. وفي زحمة الحماس للبندقية لم يجر التنبه لمن استغلوا حماس الشباب ونشاطهم في تصفية الحسابات العربية – العربية، ولو على حساب القضية المركزية للامة العربية.
وحين تعقد المقارنة بين دعم القاهرة لثورة الجزائر لتعزيز قدرات ثورتها، وتطوير الحراك الوطني في تونس والمغرب (مراكش) ، وبين الدفع بشباب فلسطين لتوريط الأنظمة العربية، وبخاصة الناصري، في صراع مع الصهاينة، في الزمن غير الملائم اقليميا ودوليا، تتضح ابعاد المفارقة فيما بين زمن التحرك السليم في الجزائر سنة 1954 والتحرك غير المحسوب بالدقة اللازمة باتجاه الحدود مع فلسطين المحتلة سنة 1965. وليس أدل على عدم الدقة في الحساب من أن الأنظمة التي قدمت الدعم المالي الأكثر من سخي ويسرت مجالات التنظيم والتدريب لمنظمات المقاومة كانت على سبيل الحصر تخوض صراعا حادا مع النظام الناصري، فيما كان بعضها حليفا استراتيجيا للامبريالية الامريكية. ومع ذلك لم يع القادة الشباب الغاية المستهدفة من دعم نشاطهم وفسح المجال لهم للتحرك بحرية لم يظفر بها مواطنو تلك الأنظمة، واغراقهم بالمال وافسادهم من خلاله، أن تلك الانظمة ما دعمت العمل المقاوم إلا من قبيل العمل وفق مخطط مرسوم، ابسط أهدافه وأكثرها براءة إحراج النظام الناصري.